top of page

العقل الزاحف ( نهاية زحف)

  • Writer: محمد شحاته حسين "محمد العريان"
    محمد شحاته حسين "محمد العريان"
  • Aug 2, 2021
  • 4 min read

كان العقل الزاحف لا يعرف تماما ما الذي يكتسبه وما الذي يفقده، على عواهن الأمور كان يمضي. وحسب ما ترميه الأقدار و الظروف.

كانت البيئات تتغير من حوله عشرات المرات. ورغم ما أصابه من جراح و نتوءات وخدوش شكلت كثيرا من خلقه. إلا أنه مازال رخوا.


كبرت عيناه بعض الشىء، واتسعت فتحتا أنفه، كذا ظهرت تلافيف في فتحات أذنيه ليسمع أكثر.


إلا أنه لم يكن قادرا على التمييز بين حواسه هذه وبين حواسه الأولى التي كان يشعر بها.

فهذه الحواس الجديدة تحتاج إلى وقت ليشعر بها، أما الحواس الأولى كالتحسس بجلده للضوء والحرارة والبلل كانت مشاعر بسيطة والمركب منها لا يصل إلى درجة كبيرة من التعقيد، كان يشعر بسرعة.

ولكن مع الحواس الجديدة بات يشعر أقل.فعليه أن يفهم ما الذي يراه ويسمعه ويشمه.

وكأن الوجود يطلب منه أن يعرف أكثر مما كان يعرف، وأن عليه أن يشعر به كما أراد هو أن يشعر.


لعلها الإرادة ناحية المجهول هي التي أعادت تكوين أجزاء جسمه وشكلته ليكشف ما يريده.


لعل رفضا ما داخله لشعور جلدي قديم هو الذي حث جسمه لاستنبات حاسة بديلة.

لعلها حواس بديلة كلما نمت ضمرت القديمة. حتى إذا اكتملت الحواس الجديدة، انتهت القديمة، وعاد الجلد ليشعر فقط بمشاعر ليس من بينها لا للسمع ولا البصر ولا الشم. وهل كان جلده قادرا من قبلها على هذه المشاعر؟ ربما.


مضى العقل الزاحف في السنين، يتقلب في الفصول والمواسم، وليس به رفض ولا قبول لأيا ما يكون.

إلا أن تجربته مع الثعبان صنعت به معرفة جديدة، فأي شيء يشبه الثعابين ولو كان غصن لبلاب طري إذا تحرك أمامه تقلب في مكانه، وراح يفرز مخاطه بسرعة وكثافة.


المخاط درع العقل الزاحف


كان المخاط هو كل ما يملكه من أسلحة، إن صح التعبير، ليواجه العقل الزاحف أي شىء يضايقه.

مرة ظل آلاف السنين يفرز مخاطا أمام حجر عملاق. لقد وجد أن الحجر يذوب من مخاطه، يتفاعل معه، وجد أنه يستطيع أن يمضي خلال هذه الكتلة الحجرية الهائلة من خلال تجويف يراه يزيد عمقا كلما أفرز مخاطه.

وفي النهاية يبدو وكأنه تعب، أو فقد التوجه و الإستقامة، فراح يتلوى في الطين أسفل الحجر وصنع تحته جحرا.


كان بحق أكثر جحوره متانة وقوة.


لقد صار يغفو، وهو يدرك أنه يغفو، كان يشعر بالراحة إن فعل. كان جسمه الرخو يتدلى من حوله بعد فترة وجيزة من الإغفاء. ويبدو أنه كان ينام.


مرة بعد مليون سنة. خرج العقل الزاحف متوجها للأكل. وكانت فراشة تحلق بالقرب منه. وظل يمد قرنيه نحوها وكأنه يحاول الإمساك بها. وفجأة ودون سابق تقدير. تحرك نصفه الأمامية.ليرتفع عن الأرض. وكأنه يريد الإمساك بها حقا. ولكن الفراشة حطت عليه ووقفت. ولم يكن يدري أنها هناك فوق ظهره.


أخذ يكرر هذه الحركة كثيرا، كان يثني نصفه الأمامي لأعلى، وظهر وكأن جزءا من صدره يتمدد، كأنه يدان جلديتان.


وبعد مليون سنة.

كان العقل الزاحف قد تعود التقاط الثمار القريبة من خلال هذه الحركة، بل صار يفعلها كثيرا إذا ما كان يحاول الصعود فوق الأرض . وكأنه يساعد نفسه أثناء الزحف.


لكن أحيانا كان لا يفعلها، كان يزحف زحفا كاملا، وكأنه نسي كيف كان يفعلها.


مرت ملايين السنين. وتساقطت الثلوج. وتحولت كل الغابة إلى شتاء أبيض قارس، ودون تردد، كان العقل الزاحف قد دخل في أعماق الأرض. عميقا، وتحجر.


بدأت الثلوج في الذوبان بعد ملايين السنين، وتحولت الأرض إلى طين. وشعر العقل بالطين بعد التحجر. لقد دبت فيه الحياة من جديد. صعد طالعا من الطين. ليواجه شيئا جديدا عليه لم يره من قبل. كان الجو شديد الحرارة. وكأن الأرض التي كان فيها قد تغيرت تضاريسها، فها هو جبل صغير، لكن تخرج من قمته المستديرة أبخرة كثيفة، وتسيل من على جوانبه صهارة حمراء.


شعر العقل بالحرارة الشديدة، وراح يزحف مبتعدا. كان يزحف بين سيالات من الصهارة، لو مس أحدها لاحترق من فوره.


حتى جاء المساء، وانهمرت السماء بالمطر، وكان قد اقترب من الغابة، حتى جاء الليل، كان فيه جبل البركان وكأنه شعلة من النار في سواد الليل، كذا الصهارة المنسابة.

توقف العقل عن الزحف، واستدار وكأنه ينظر إلى جبل البركان، وفجأة انثنى بنصفه الأمامي واستدار على نصفه الداخلي، وراح في أحراج الغابة، واختفي من تحت النجوم.


لقد بدأ يتعلم كيف يناور بجسمه. ولم يعد يحتاج إلى الإستدارة كله ليلتف عكس جهته.


مرت مليون سنة

ها هو يزحف فوق الأسفلت إلى جانب الرصيف، لقد دخل المدينة، وكان آخر مرة قد فقد جزءا من جنبه إثر ضربة فأس اراد بها أحد الفلاحين أن يقتله، لما رآه يزحف داخل حقل الذرة الخاص به. وحقا كان منظره يخيف. فقد بدا وكأنه ثعبان رخو متكور حول نفسه، وقد ظهر على جسمه ما يشبه الحراشيف اليابسة.

وقد حاول كلب أن يأكله، لكنه لم يحتمل رائحة مخاطه، فجرى بعيدا وهو يعوي بصوت خفيض.

دخل المدينة عصرا. وكان طريق الأوتوستراد مزدحما بالسيارات خاليا من المشاة، ولم ينتبه إليه أحد.

كانت الشوارع مظللة، وكان ما يشبه قوس النصر يبدو له من بعيد. صار يزحف في الشوارع.


حتى وقف طويلا ملتصقا بجدار هرم اللوفر الزجاجي، واستطاع الزحف حتى دخل المتحف.

كانت اللوحات والتماثيل في كل مكان، وكان أكثر ما يخيفه تلك الأوتاد التي تضرب الأرض من حوله فجأة وكثيرا. كانت كعوب الأحذية من حوله في كل مكان داخل المتحف.


واستطاع أن يقضي ليلة كاملة داخل سيارة تحفة.

كان نائما أسفل الكرسي الخلفي منها. ولحظه كان بابها مفتوحا. التف حول نفسه كعادته قبل أن ينام، وما هي إلا لحظات حتى ارتخى جسمه من حوله.


وفي عصر اليوم التالي

خرج من المتحف. كان الليلة يخيم على المدينة. كانت الأنوار الكهربية تسطع في كل مكان، كانت أشعة الليزر المعلقة للزينة وجذب الإنتباه تضرب عينيه الصغيرتين.

لقد صار أعمى.


كذا صوت السيارات ومنبهاتها العالية كانت أقوى من كل برق سمعه، كان جسمه الرخو يرتعش بقوة كلما ضربت سيارة نفيرها.

لقد صار أصما.


ولم يبق له إلا أن يصدر أصواتا هو نفسه ما عاد يسمعها، فلم يعد يصدرها

لقد صار أخرسا.


و أمام لافتة ضخمة عالية أمامه لا يراها. وقف وقد شعر بكامل التعب.

كان ملهى ليلي صاخب، يرتاده العشرات من الشباب في تلك اللحظة. وقد رآه أحدهم وحسبه قنفذا. فضربه بقدمه.


فتدحرج العقل الزاحف بضع خطوات. وقد سكن تماما إثر الضربة. وفجأة مرت سيارة وقد نزل المطر فرشت بعجلاتها جسمه كله. وحينها شعر بأنه يحتاج إلى تتبع الماء. كان الماء يجري منهمرا ليسقط في بالوعة للصرف.

تتبع العقل الزاحف الماء إلى جوار الرصيف يحاول أن يصل إلى قليل من الماء الساكن ليشرب. حتى وصل إلى فتحة البالوعة، وسقط.


لقد غرق العقل الزاحف بعد ملايين السنين في بالوعة.



محمد شحاته حسين (محمد العريان)















 
 
 

Opmerkingen


bottom of page