top of page

الدين والمرض (هل المرض عقوبة؟)

  • Writer: محمد شحاته حسين "محمد العريان"
    محمد شحاته حسين "محمد العريان"
  • Dec 12, 2020
  • 18 min read
كان المرض ولايزال الوبائي منه حدثا يؤثر في سلوك الشعوب المصابة و يدفعها إلى محاولة إيجاد رؤية تفسيرية توضح أسباب حدوثه.

ولما كان المرض أمرا سيئا في كثير من ثقافات الشعوب. فإن نسبته إلى الخير أمر في غاية التعقيد.

ونخص بمقالنا الأمراض الوبائية خاصة. لأنها لا تخص حالة إنسانية وحدها يمكننا الوقوف على نشاطها وسلوكها لنحكم عليه بالخيرية أو الضدية من ثم يمكن أن نمرر أسبابا نتائجية لحدوثه كالتكفير و التخليص أو العقاب.

إنما نتطرق إلى محاولة مستخدمين الأدوات الثقافية التي بين أيدينا عن الشعوب لمحاولة تفهم ردود فعلهم تجاه مرض وبائي.

فالمرض الوبائي عامة في شكله العام لا يفرق بين طفل وكبير بين رجل و امرأة بين فكر وفكر. إنما يتميز بطابع انتشار داخل مجال جغرافي لا يميز بين سكانه.

و إن كان في عصرنا يمكن رصد حالة مرض وبائي لا تتفشى إلا في أقوام بعينهم. لأسباب مختلفة منها ما هو ممكن القصد ومنها ما هو اعتباطي حدث دون قصد بشري مسبق.

فالحديث عن جائحة تتركز على أسس جينية هو أمر يدخل في إطار رؤية خارج مقالنا وحديثنا عن جائحة ذات طابع اعتباطي لا يمكن تحديد أسسها الإنتشارية على الأقل تبعا للفكر أو المكان.

ولعل في التاريخ أمثلة عن جائحات مرضية تفشت في شعوب لم يكن لها سبق الإصابة بها في شكل وبائي. وتلك نتاج اختلاط بشري غير مقصود (على الأقل في البداية) . كتفشي ما يسمى بظاهرة (أمراض الغزاة) إذ لا يملك سكان قطر ما مناعة ضد بعض الأمراض التي يحملها الوافدون ذوو التاريخ المرضي معها والذي مكنهم من تكوين مناعة تدريجية ضدها أهلت أجسامهم لتحمل نوبات تلك الأمراض ومقاومتها دون الوصول إلى حالات وبائية حرجة. نذكر على سبيل المثال دخول الأوربيين إلى القارة الأمريكية مصطحبين معهم أمراضهم المتوطنة القديمة إلى شعوب ليس بينهم وبين تلك النوعية من الأمراض سابقة اتصال مما أدى إلى تفشي أمراض حصدت ملايين السكان على حد قول الكثير من التقديرات كالجدري والحصبة والسل والنكاف والطاعون. وتحدث تلك الظاهرة عادة في تلك البقاع المتناثرة في العالم ولعل فترة ال700 سنة السابقة يمكن تسميها بفترة ( الإنفتاح الشامل) فخلالها ظهر الفكر الإستعماري الحداثي بصورة لم يسبق لها مثيل قريب زمني. و كأن الإنتشار خاصة الأوربي تميز عن كافة أشكال الإستعمار التاريخية السابقة له بمحاولة استكشاف أراضي وجزر منعزلة و الإهتمام بإرسال بعثات استكشافية لأغراض استعمارية مما جعلهم يختلطون بشعوب ظنت لطول تاريخها الإنعزالي أنها وجدت في أماكنها منذ بدء التكوين الوجودي.

إلا أن العالم لا يتوقف عن أشكال ضخ الحياة كما لا يتوقف أيضا عن ضخ أسباب للموت. وكأن الوجود لديه ميزان دائم العمل محافظا على شكل ما من أشكال الإستقرار الوجودي لصالح ما يمكن تسميته بالهيولي الوجودي.
الهيولي الوجودي أو الحق الأول إن أمكننا القول بذلك هو الكيان أو الوظيفة المجهولة أو السبب الذي من أجله يحدث الحراك الوجودي دون أن نفهم على وجه دقيق ما القيمة التي يحاول الوجود الحفاظ عليها ممارسا وظيفته التغييرية على الدوام. فلا يمكن أن نقول أنه يحاول الحفاظ على حيوان بعينه أو نوع من أنواع النبات أو حتى الحفاظ على الإنسان. كذا من الظاهر جليا أنه لا يسعى للحفاظ على كل هؤلاء سويا إذ نجد صنوفا من الموجودات قد تم تدميرها أو انقرضت. ولا حتى يمكن القول أنه يسعى للحفاظ على شكل الحياة بصورة عامة. و إن كانت تلك التغييرات تحدث على مدد زمنية طويلة أو قصيرة فإن الإجمالية التاريخية إلى اليوم تبدو وكأن الوجود ينتصر لشيء ما.
ويمكن القول أن الوجود لا يريد إلا الحفاظ على الوجود. ولكن فكل ما نراه من ظواهر طبيعية لا يمكنها أن تؤدي إلى تلاشي الوجود. أو المسطح الأرضي بكل ما يحويه من تضاريس متغيرة على الدوام.
ولعل التغيرات الوجودية نفسها التي تحدث وما نسميه نحن اتزانا ليس إلا تصور منا مسبوق بحسن الظن في هذا الوجود الذي نحاول أن نفهم سلوكه الكلي منطلقين من فرضية(وجوب الإتزان)! ولعله هذا الوجود يسعى جاهدا لإنهاء نفسه. على الأقل لإنهاء النموذج السلوكي الذي نعرفه عنه. لعله يتسم مجازا بما يمكن أن نسميه (بالتدمير الذاتي) أو (الإنتحار الوجودي) بينما نقبع حاسبين له تبعا لتصوراتنا تصرفاته وسلوكياته مفسرين ذلك بأنه يحاول دائما الحفاظ على الحياة. ويالاحسن ظننا به بل يتعدى الأمر أحيانا إلى تفسير كل ما يحدث وكأنه يحدث فقط ولا يحدث إلا من أجل الإنسان!
وكأنه الوجود يحاول جاهدا البقاء على نفسه صالحا لنا لنعيش فيه من أجلنا.ربما كانت نظرتنا مسرفة جدا تجاه هذا الوجود ناعتينه بمفاهيم الإيثار والتضحية والفهم والشغل الدؤوب والنظامية البناءة التي تسعى بنا نحو حالة وجود أفضل. وربما نتخيل أنه الوجود يكفر عن متاهاته وتغيراته ويحاول أن يعود بنا إلى صورته الأصلية التي كان عليها يوم لا نعرف متى كانها. فوحده الوجود هو الموجود التاريخي من أول الوجود.

في 2020 اجتاحت الكورونا العالم المعلوم لدينا بأسره. والعالم كما نعرفه اليوم ليس هو العالم كما عرفناه من قبل.

ولعل العلم إن كان في كثير من الأيدولوجيات هو على النقيض من الدين كما يحاول البعض جعله هكذا دائما. فإن الكثير من الأيدولوجيات ترى العلم جزء من الدين.

و إن كان تعريف العلم نفسه يختلف من أيدولوجيا إلى أخرى. فإن ما نقصده هنا هو العلم التجريبي.

التقانة وتجاربها بكافة أشكالها وتداعيتها. وعلينا أن نحدد في مقالنا أن دائرة كلامنا حول الفكر الديني الشرق أوسطي أو الإسلامي أو الشرقي بشكل عام هي الموضوع متجنبين الدخول إلى خصائص ذات طابع طائفي لا يمثل قيمة عددية كبيرة أو أهمية ذات طابع انتشاري.

فمرض كورونا لا يمكن تصوره حتى كتابة هذه السطور نتاج التخليق الطبيعي. وهناك إشارات كثيرة تصدر عن مرجعيات سياسية وعلمية ترى أنه نتاج معملي.

ونود فقط أن ندخل إلى مسار المرجعيات الدينية لنرى كيف يمكن لثقافة السكان محل الموضوع مواجهة هذا الوباء من خلال معتقداتهم الدينية.

نعلم أن المرض قد صار له في الفكر الديني العام سببية وجودية خارجة عن نطاق اللامعلومية. فالبحث عن سبب هو إيمان بإمكانية وجوده. ولعل هذه الإمكانية كانت لترفض في كثير من الأيدولوجيات(الفكرية/الزمانية). ونقصد بالفكرية الزمانية أن نتفادى الدخول في تطور الأيدولوجيا الواحدة. فكثيرا من الأيديولوجيات تغيرت عبر الزمن إلا أن أصحاب الفكر الأيديولوجي الحديث لا ينصرفون إلى تغيير المسمى. محاولين التمسك بظاهرة التطور الأيدولوجي دون مراعاة السمات المحددة للنسق الأيدولوجي الواحد في أحيان كثيرة.

ولنتصور معا تحليلات أشخاص متعددي التوجه تحت نطاق نسق ديني واحد في حادثة كورونا في بلد كمصر.

أصاب المرض شخصا وعند سؤالنا عن السبب كانت الإجابات المتاحة هي.

إن هذا المرض لا يصيب الطيبين. إن هذا المرض جاء لينهي العالم. إن هذا المرض جاء ليكون عقابا للجميع. إن هذا المرض لا يصيب إلا الطيبين. إن هذا المرض حتما علامة ربانية. إن هذا المرض من علامات الساعة. إن هذا المرض صورة جديدة من صور الإحتلال لأننا نستحق لأننا انصرفنا عن العيش السوي والإهتمام بديننا.

ورغم كل ذلك فهم لا يمانعون في التعاطي مع المشكلة وكأن لها سبب وجودي يمكن القضاء عليه بالعلاج مثلا.

تباينت الردود حتى التضاد.

ولعل الإجابة التي نريد البحث عنها كونها السمة الغالبة. إن هذا المرض عقاب الهي وعلينا أن نسارع بتصحيح أوضاعنا الكلية بما فيها الإهتمام بديننا ودنيانا.

ولعل هذه إجابة تبدو متوسطة الإيقاع بين الإيمان بأن هذا المرض عقوبة وبين أن هذا المرض له سبب يمكن إيجاد علاج له والتخلص منه.

وهذا ما يدفعنا إلى كتابة المقال

(هل المرض عقوبة إلهية؟ و إن كان كذلك؟ فما هي رؤية المؤمنين بذلك عن الههم هل هو مصدر للخير والشر ؟ أم هو المتحكم بالخير والشر؟..)

يطول السؤال وبكل بساطة لأننا نسأل عن ما هو اعتقاد هذا النوع من المؤمنين. ما هي فلسفة الخير والشر التي يحاولون من خلالها تفسير الأحداث بشكل عام.

بالرجوع في تاريخ المنطقة الفكري. بالرجوع إلى ما هو أبعد من ظهور الإسلام/الدعوة المحمدية.

فقد كان لي ملاحظة منذ عدة سنوات ما كنت أتوقع أن يكون لها فائدة في هذا المقال.

قلت"
"اختلاف الفكر الشرقي العربي عن محيطه. بينما كانت الزرادشتية دين الفرس والبابليين. إلا أن عقيدة البابليين يرجعون المرض إلى خطيئة فعلها الإنسان فكانوا يدعون الآلهة أن تغفر لهم خطاياهم ليتم الشفاء. بينما الفرس يرون أن المرض بسبب اله الشر. ولا شأن لخطايا الإنسان به."

فنجد أن النظرة السببية علية تجاه الإمراض في الحالتين. ففي الحالتين تقوم قوة عليا بإحداث المرض. و إن كان الفرس قد صنعوا نوعا من تبرئة الآلهة جميعهم ما عدا إله الشر والذي يفعل ذلك فقط بسبب شره إذ الإنسان بسلوكه لا علاقة له بالأمر إن كان محسنا أو مخطئا.

و لكن ماذا عن الإله الواحد؟ كيف مرر العقل الإزدواجية الفعلية الصادرة عن الإله الواحد. لعل الإجابة ليست بهذه البساطة فهي تدخل في خضم بحر من الأفكار تبدأ بالعقاب التأديبي مرورا بالعقاب الإفنائي وصولا بالعقاب النهائي ما بعد الموت الذي من الممكن ألا أن نعلم سببه (كالعقاب يوم القيامة/ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير).

ولا يمكن بحال أن يكون هذا المقال قاصدا الدخول في معترك كل هذا الموج.

فإننا نواجه مفاهيم لا يمكن حصرها هنا مثل(التوكل-التواكل-المشيئة-الإرادة-الإذن-القضاء والقدر- الثواب والعقاب- الكتاب السابق- علم الإله المسبق- الجبرية- الخيرية- الخير والشر..) إلى جانب أفكار دينية تصل مفارقاتها حتى الإنتماء الوحدوي الشخصي لكل فرد عبر تاريخ المنطقة.

فننقل من كتاب تفسير القرآن للشريف المرتضى فصولا قصيرة تعبر لا فقط عن معتقده ممثلا للفرقة الإثنى عشرية قديما بل يمثل اعتقادا لطيف واسع من الناس في داخل الكثير من الأيدولوجيات و إن كانت هناك مفارقة صارخة بين الفكر ومن يعتنقه عند انتشار الجهل والأمية الإنتمائية في مجتمع تغلب عليه سمات اللاحالة/اللادين/اللانتماء. وإن كان يصرح ببعض معتقداته يدافع عنها إلا أنه يجهل صراحة الكثير من أهم خصائص ما ينادي له. فالأمر كمن يحاول أن يروج لبضاعة ورثها ولا يعرف حقيقة ما هي.

فوجدت أن إعادة استعراض الآراء المتابينة من جديد هو أمر لا حاجة لنا به إذ وجدنا من سبق إلى هذا الأمر وكفانا مشقة البحث عن التعددية القولية في الإسلام حول مسألة الثواب والعقاب ومنا نخلص إلى استنتاجية ذلك مع المرض.

يقول في تفسيره


"الأخبار المانعة من نسبة الشر إلى الله تعالى"

وأمّا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إضافة الحسن إلى الله والسوء إلى العباد ما روي عن أبي امامة الباهلي (٥) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اضمنوا لي أشياء أضمن لكم الجنّة. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : لا تظلموا عند قسمة مواريثكم ، ولا تجبنوا عند قتال عدوّكم ، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم ، وانصفوا الناس من أنفسكم ، ولا تغلوا غنائمكم ، ولا تحملوا على الله ذنوبكم.

وروي عن أبي هريرة أنّه قال : قام رجل من خثعم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله متى يرحم الله عباده؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يرحم الله عباده ما لم يعملوا بالمعاصي ثمّ يقولون هي من الله. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم : رجل أشرك بالله ، ورجل عق والديه ، ورجل سعى بأخيه إلى سلطان جائر فقتله ، ورجل قتل نفسا بغير نفس ، ورجل حمل على الله ذنبه.وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد خصلتان لا ينفع معهما صوم ولا صلاة : الإشراك بالله ، وأن يزعم عبد أن الله يجبره على معصيته. ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنّه سئل عن امرأة توفّي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا؟ فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.وروي عن أبي هريرة أنّه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قام بالليل إلى الصلاة قال : لبيك وسعديك ، الخير في يديك ، والشرّ ليس إليك. وروي عن حذيفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إذا دعي بي يوم القيامة أقوم فأقول : لبّيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك.ذكرها لطال بها الكتاب وإنّما نذكر من الباب الذي ينبّه به على الحقّ.

الأدلة العقلية على تنزيه الله من خلق الشرور

وأمّا حجة القول على أنّ الله لم يفعل أفعال العباد ، وأنّ فعل الخلق غير فعل ربّ العالمين ، فهو أنّا وجدنا من أفعال العباد ما هو ظلم وعبث وفساد ، وفاعل الظلم ظالم ، وفاعل العبث عابث ، وفاعل الفساد مفسد ، فلمّا لم يجز أن يكون الله مفسدا علمنا أنّه لم يفعل الظلم ولا العبث ولا الفساد.

وأيضا ؛ فإنّ أفعالهم التي هي محكمة منها ما هو طاعة وخضوع وفاعل الطاعة مطيع ، وفاعل الخضوع خاضع ، فلمّا لم يجز أن يكون الله مطيعا ولا خاضعا علمنا أنّه لا يفعل الطاعة ولا الخضوع.

وأيضا ؛ فانّ الله لا يجوز أن يعذّب العباد على فعله ، ولا يعاقبهم على صنعه ، ولا يأمرهم بأن يفعلوا ما خلقه ، فلمّا عذّبهم على الكفر ، وعاقبهم على الظلم ، وأمرهم بأن يفعلوا الإيمان ، علمنا أنّ الكفر والظلم والإيمان ليست من فعل الله ولا من صنعه.

وممّا يبيّن ما قلنا : أنّه لا يجوز أن يعذّب العباد على طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم ؛ لأنّ هذه الامور فعله وخلقه فيهم ، فلو كان الكفر والفجور فعل الله لم يجز أن يعذّبهم على ذلك ولا ينهاهم عنه ولا يأمرهم بخلافه ، فلمّا أمر الله العباد بالإيمان ونهاهم عن الكفر ولم يجز أن يأمرهم بأن يفعلوا طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم علمنا أنّ هذه الامور فعل الله ، وأنّ الطاعة والمعصية والإيمان والكفر فعل العباد.

وأيضا فلو جاز أن يفعل العبد فعل ربّه ، وأن يكسب خلق إلهه ـ كما قال مخالفونا إنّ العباد فعلوا فعل ربّهم ـ لجاز أن يكون كلامهم كلام الله ، فيكون كلام العبد كلام ربّه كما كان كسب العبد فعل خالقه ، فلمّا لم يجز أن يكون كلام العبد كلام خالقه لم يجز أن يكون فعل العبد فعل إلهه ، ولا كسب العبد صنع خالقه ، فثبت أنّ أفعال العباد غير فعل ربّ العالمين.

وأيضا ؛ فإنّه لا يخلو الظلم في قولهم وفعلهم من أن يكون بخلقه تعالى [فيكون الظالم لا ظالما ومصيبا بذلك لا مخطئا فلو كان الله بخلقه الظلم عادلا أيضا كان الظلم عدلا وصوابا ؛ لأنّه لا يجوز أن يصيب إلّا بفعل الصواب ، ولا يعدل إلّا بفعل العدل ، ولو كان الكفر والظلم صوابا وعدلا كان الكافر والظالم مصيبين عادلين بالظلم ولا مصيب بفعل الكفر والظلم ، فثبت أنّ الله لا يجوز أن يفعل الظلم والخطأ والفسوق والفجور بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب.

وأيضا فلو جاز أن يفعل الله الظلم ولا يكون ظالما لجاز أن يخبر بالكذب بقوله ولا يكون كاذبا ، فلمّا لم يجز أن يكون الله يقول الكذب ؛ لأنّ القائل المخبر بالكذب كاذب ، كذلك لم يجز أن يفعل الظلم ؛ لأنّ الفاعل للظلم ظالم ، فلمّا لم يجز أن يكون «عزوجل» ظالما لم يجز أن يكون للظلم فاعلا ، فثبت أنّ الظلم ليس من فعل الله ولا الكذب من قوله سبحانه.

وأيضا ؛ فإنّ الله سخط الكفر وعابه وذمّ فاعله ولا يجوز على الحكيم أن يذمّ العباد على فعل ولا يعيب صنعه ولا يسخط ، بل يجب أن يرضى بفعله ؛ لأنّ من فعل ما لا يرضى به فهو غير حكيم ، ومن يعيب ما صنع ويصنع ما يعيب فهو معيب والله يتعالى عن هذه الصفات علوّا كبيرا ، فلمّا لم يجز على ربّنا أن يعيب ما صنع ولا يسخط ما يفعل علمنا أنّ أفعال العباد غير فعل ربّ العالمين.

وأيضا ؛ فإنّ الله قال في كتابه : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) فالله أحكم وأعدل من أن يسخط في فعله ، ويغضب من خلقه ، ويفعل ما لا يرضى به.

وأيضا فإنّ الفاعل للفاحشة والظلم والكفر أكثر استحقاقا للذمّ من الأمر بالفاحشة أو الكفر ، فلمّا كان الأمر بالكفر والظلم والفواحش غير حكيم كان الفاعل لذلك والمحدث له غير حكيم ، فلمّا كان الله أحكم الحاكمين علمنا أنّه غير فاعل للكفر ، ولا محدث للظلم ، ولا مبتدع للقبائح ، ولا مخترع للفواحش ، وثبت أنّ الظلم فعل الظالمين ، والفساد فعل المفسدين ، والكذب فعل الكاذبين وليس شيء من ذلك فعل ربّ العالمين.

وأيضا ؛ فإنّه لا تخلو أفعال العباد من أن تكون كلّها فعل ربّ العالمين لا فاعل لها غيره ، أو أن تكون فعله وفعل خلقه وكسبهم ، أو أن تكون فعل العباد وليست بفعل الله ، فلمّا لم يجز أن يكون الله تعالى منفردا بالافعال ولا فاعل لها غيره ؛ لأنّه لو كان كذلك كان لا يجوز إرسال الرسل وإنزال الكتب ولبطل الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحمد والذمّ ؛ لأنّه لا فعل للعباد ، وأوجب أيضا أن يكون هو الفاعل لشتم نفسه ، وللعن أنبيائه ، وللفسوق والفجور ، والكذب والظلم ، والعبث والفساد ، فلو كان ذلك منه وحده كان هو الظالم والكاذب والعابث والمفسد ، إذ كان لا فاعل للظلم والعبث والكذب والفساد غيره ، ولو كان فاعلا لما فعله العباد كان هو الفاعل للظلم الذي فعله العباد والكذب والعبث والفساد وكان يجب أن يكون ظالما كما أنّهم ظالمون ، وكان عابثا مفسدا إذ لم يكونوا الفاعلين لهذه الامور دونه ، ولا هو الفاعل لها دونهم.

فلمّا بطل هذان الوجهان ثبت الثالث ، وهو أنّ هذه الأفعال عمل العباد وكسبهم ، وأنّها ليست من فعل ربّ العالمين ولا صنعه ، ولو قصدنا إلى استقصاء أدلة أهل العدل في هذا الباب لطال بذلك الكتاب.

فصل

اللوازم الفاسدة للقول بخلق أفعال العباد

وممّا يسأل عنه ممّن زعم أنّ فعل العباد هو فعل الله وخلقه أن يقال لهم : أليس من قولكم أنّ الله محسن إلى عباده المؤمنين ، إذ خلق فيهم الإيمان وبين لهم بفعل الإيمان؟.

فإن قالوا : لا نقول ذلك ، زعموا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يحسن في تبليغ الرسالة ، وكفى بهذا خزيا لهم.

فإن قالوا : إنّ الانسان المؤمن محسن بفعل الإيمان وكسبه. يقال لهم : فقد كان إحسان واحد من محسنين بفعل الإيمان وكسبه من الله ومن العبد.

فإن قالوا : بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون إساءة واحدة من مسيئين ، فيكون الله «عزوجل» مسيئا بما فعل من الإساءة التي العبد بها مسيء ، كما كان محسنا بالاحسان الذي به العبد محسن.

فإن قالوا : إنّه مسيء بإساءة العباد لزمهم أن يكون ظالما بظلمهم ، وكاذبا بكذبهم ، ومفسدا بفسادهم ، كما كان مسيئا بإساءتهم.

فإن قالوا : لا يجوز أن تكون إساءة واحدة بين مسيئين. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون إحسان واحد بين محسنين ، ولا يجدون من هذا الكلام مخرجا والحمد لله رب العالمين ؛ وكلّما اعتلّوا بعلّة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله نافعا للمؤمنين بما خلق فيهم من الإيمان. فمن قولهم : نعم. فيقال لهم : والعبد نافع لنفسه بما فعل من الإيمان. فإذا قالوا :

نعم. قيل لهم : قد ثبت أنّ منفعة واحدة من نافعين هي منفعة من الله بالعبد بأن خلقها ، ومنفعة من العبد بأن اكتسبها.

فإن قالوا : نعم. قيل لهم : وكذلك الكفر قد ضرّ الله به الكفّار بأن خلقه ، وضرّ الكافر نفسه بأن اكتسب الكفر.

فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله قد أفسد الكافر بأن خلق فساده ويكون الكافر هو أفسد نفسه بأن اكتسب الفساد.

فإن قالوا : نعم. قيل : فما أنكرتم أن يكون الكافر جائرا على نفسه بما اكتسب من الجور. فإن قالوا : جائر ، قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله جائرا على نفسه بما فعل من الجور أيضا كما قلتم في الكافر ، فإن قالوا : جائر خرجوا من دين أهل القبلة ، وإن قالوا : لا يجوز أن يكون الله جائرا بما فعله العباد من الجور ، قيل لهم : وكذلك ما أنكرتم أن لا يكون مفسدا بفسادهم ، ولا ضارّا لهم بضررهم.

فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون فاعلا لما فعلوه من الكفر والفساد وأن يكون فعله غير فعلهم ، وكلّما اعتلّوا بعلّة في هذا الكلام عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله نافعا للعباد [المؤمنين] بما خلق فيهم من الإيمان.

فمن قولهم : نعم. فيقال : وكذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفعهم بما دعاهم إلى الإيمان.

فإن أبوا ذلك وزعموا أنّ النبي ما نفع أحدا ولا أحسن إلى أحد ؛ قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجب على المؤمنين شكره ولا حمده ، إذ كان غير نافع لهم ولا محسن إليهم.

وإن قالوا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نفعهم بدعائه إياهم إلى الإيمان. قيل لهم : أفليس الله بما خلق فيهم من الإيمان أنفع لهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ دعاهم إلى الإيمان ، فلا بدّ لهم من نعم ؛ لأنّ النبي قد يجوز أن يدعوهم إلى الإيمان ، فلا بدّ لهم من نعم يجيبون إليه ولا يجوز أن يخلق الله فيهم الإيمان إلّا وهم مؤمنون.

فيقال : أفليس قد ضرّ الله الكافر في قولهم بما خلق فيه من الكفر؟ فمن قولهم : نعم. يقال لهم : وكذلك إبليس قد ضرّهم بدعائه إياهم إلى الكفر ، فلا بدّ من نعم وإلّا لزمهم أن لا يكون إبليس وسوس إلى أحد بمعصيته ولا يجب أن يذمّ على شيء من أفعاله ، وردّوا أيضا مع ذلك كتاب الله ؛ لأنّ الله يقول :

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) (١). ويقال لهم : فأيّما أعظم المضرّة التي فعلها الله تعالى بالكافر من خلق الكفر فيه أو المضرّة التي فعلها إبليس من دعائه إيّاهم إلى الكفر؟ فإن قالوا : المضرّة التي فعلها بهم إبليس من دعائه إيّاهم إلى الكفر أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون منفعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين أعظم بدعائه إيّاهم إلى الإيمان.

فإن قالوا : إنّ المضرّة التي خلقها الله فيهم أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون مضرّة الله للكافرين في خلق الكفر فيهم أعظم من مضرّة إبليس بدعائه إيّاهم إلى الكفر.

فإن قالوا ذلك قيل لهم : فقد وجب عليكم أنّ إلهكم أضرّ على الكافرين من إبليس. فإذا قالوا : إنّه أضرّ عليهم من إبليس. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون شرّا عليهم من إبليس كما كان أضرّ عليهم من إبليس كما قلتم : إنّ الله أنفع المؤمنين من النبي وخير لهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قالوا : إن إلههم شرّ من إبليس فقد خرجوا من دين أهل القبلة ، وإن أبوا ذلك لم يجدوا منه مخرجا مع التمسّك بقولهم.

ويقال لهم : أتقولون : إنّ الله قد ضرّ الكفّار في دينهم؟ فمن قولهم : نعم.

فيقال لهم : فما أنكرتم أن يغرّهم في دينهم كما أنّه ضرّهم في دينهم. فإن قالوا : إنّ الله لا يغرّ العباد في أديانهم. قيل لهم : والله لا يضرّهم في إيمانهم.

وإن قالوا : إنّ الله يغرّهم في أديانهم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يموّه عليهم ويخدعهم عن أديانهم؟ فإن قالوا بذلك شتموا الله أعظم الشتيمة. وإن قالوا : إن الله لا يخدع أحدا عن دينه ولا يغرّ أحدا عن دينه. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يضرّه في دينه ؛ وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أتقولون : إنّ الله ضرّ النصراني في دينه إذ جعله نصرانيا وخلق فيه الكفر ، وكذلك اليهودي؟ فإن قالوا : نعم ـ وهو قولهم ـ فيقال لهم : فما أنكرتم أن يفسده في دينه فيكون مفسدا لعباده في أديانهم. فان قالوا : إنّه مفسد لهم في أديانهم. قيل لهم : أفيجب عليهم شكره وهو في قولهم مفسد لهم؟ فإن قالوا : لا يجب أن يشكر صحّ كفرهم ، وإن قالوا : إنّه يجب أن يشكر. قيل لهم : على ماذا يشكر؟ فإن قالوا : على الكفر فقد افتضحوا وبان خزيهم. وإن قالوا : إنّه يشكر على ما خلق فيهم من الصحّة والسلامة. قيل لهم : أو ليس هذه الامور عندكم قد فعلها مضرّة عليهم في دينهم ليكفروا ويصيروا إلى النار ، فكيف يكون ما به هلاكهم نعمة عليهم؟! فإذا جاز ذلك يكون من أطعمني خبيصا مسموما ليقتلني به منعما عليّ ومحسنا إلى فإن قالوا : لا يكون محسنا إلى الكافر بهذه الامور إذ إنّما فعلها فيهم ليكفروا ويصيروا إلى النار ، فلا بدّ لهم أن لا يروا الشكر لله على العباد واجبا ، فيخرجوا من دين أهل القبلة.

ويقال لهم : أليس الله بفعله للصواب مصيبا؟ فمن قولهم : نعم يقال لهم : فإذا زعمتم أنّه قد جعل الخطأ فما أنكرتم أن يكون مخطئا؟ فإن قالوا : إنّه مخطيء ، بان كفرهم ، وإن قالوا : لا يكون بفعله للخطأ مخطئا. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون بفعله للصواب مصيبا كما لم يكن بفعله للخطأ مخطئا؟ وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

ويقال لهم : أليس الله «عزوجل» مصلحا للمؤمنين بما خلق فيهم من الصلاح؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون مفسدا للكافرين بما خلق فيهم من الكفر والفساد؟ فإن قالوا بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون ظالما بما خلق فيهم من الظلم؟ فإن أبوا ذلك يسألوا الفصل بينهما ولن يجدوه ، وإن قالوا : إنّه ظالم ، فقد وضح شتمهم الله تعالى.

ويقال لهم : أتقولون إنّ الله مصيب عادل في جميع ما خلق؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون جميع ما خلق صوابا وعدلا إن كان عادلا مصيبا في خلقه. فإن قالوا : إنّ جميع ما خلق عدل وصواب. قيل لهم : أفليس من قولكم إنّ الظلم والكفر والخطأ عدل وصواب. فإن قالوا : إنّ ذلك عدل وصواب. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون ذلك حقّا وصلاحا.

فإن قالوا : بذلك فقد وضح فساد قولهم ولزمهم أن يكون الكافر عادلا بفعله الكفر وأن يكون مصيبا محقّا مصلحا أكان فعله عدلا وصوابا وحقّا وصلاحا.

فإن أبوا أن يكون الكفر صلاحا وصوابا وحقّا وعدلا قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون بفعله الجور عادلا ، ولا بفعله الخطأ مصيبا ولا بفعله الفساد مصلحا إذا ، فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون الخطأ والجور من فعله إذ كان مصيبا عادلا في جميع فعله. فإن قالوا بذلك ، تركوا قولهم وصاروا إلى قول أهل الحقّ : إن الله لا يفعل خطأ ولا جورا ولا باطلا ولا فسادا.

ويقال لهم : أتقولون إنّ الله يفعل الظلم ولا يكون ظالما؟ فمن قولهم : نعم. يقال لهم : فما الفرق بينكم وبين من قال : إنّه ظالم وإنّه لم يفعل ظلما؟ وإن قالوا : إنّه لا يجوز أن يكون ظالما إلّا من فعل ظلما ، قيل لهم : وكذلك لا يجوز أن يكون للظلم فاعلا ولا يكون ظالما ، بل يجب أن يكون من كان للظلم فاعلا أن يكون ظالما.

ويقال لهم : أليس من قولكم إنّ الله خلق الكفر في الكافرين ثمّ عذّبهم عليه؟ فإذا قالوا : نعم. يقال لهم : فما أنكرتم أن يضطرّهم إلى الكفر ثمّ يعذّبهم عليه؟ فإن قالوا : لو اضطرّهم إلى الكفر لم يكونوا مأمورين ولا منهيين ؛ لأنّه لا يجوز أن يؤمروا ولا ينهوا بما اضطرّهم إليه. قيل لهم : ولو كان الكفر قد خلق فيهم لم يكونوا مأمورين ولا منهيين ؛ لأنّه لا يجوز أن يؤمروا وينهوا بما خلق الله فيهم ، وكلّما اعتلوا بعلّة عورضوا بمثلها.

وإن قالوا : إنّ الله اضطرّهم إلى الكفر. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون قول

حملهم عليه وأجبرهم عليه وأكرههم. فإن قالوا بذلك فقد صاروا إلى قول جهم : إنّه لا فعل للعباد وإنّما هم كالحجارة تقلب وإن لم تفعل شيئا [و] كالأبواب تفتح وتغلق وإن لم تفعل شيئا ، ولزمهم ما لزم جهما.

فإن صاروا إلى قول جهم ، قيل لهم : إذا جاز عندكم أن يعذّب الله العباد على ما لم يكن منهم بل يعذّبهم على ما اضطرّهم إليه وحملهم عليه فما أنكرتم أن يعذّبهم على ألوانهم وصورهم وطولهم وقصرهم.

فإن قالوا بذلك ، قيل لهم : فلم لا يجوز أن يعذّبهم من خلقهم وخلق السماوات والأرض. فإن قالوا بذلك سقطت مؤنتهم ولم يؤمنوا لعلّ الله سيعذّب قوما على ما ذكرنا ، وإن قالوا : لا يجوز أن يعذّبهم على ما ذكرتم ، قيل لهم : فما أنكرتم أن يجوز أن يعذّبهم على ما اضطرّهم إليه وأجبرهم عليه.

ويقال لهم إن صاروا إلى قول جهم : إذا زعمتم أن لا فاعل إلّا الله فما أنكرتم أن يكون لا قائل إلّا الله؟ فإن قالوا بذلك : قيل لهم فما أنكرتم أن يكون هو القائل إنّي ثالث ثلاثة ، وأن لي ولدا ، وهو الكاذب بقول الكاذب ، ولزمهم أن يكون جميع أخباره كذبا ، وإن قالوا : لا يجب أن يكون لا قائل إلّا الله ؛ لأنّ هذا يوجب أنّه ظالم عابث إذ لم يفعل الظلم والعبث غيره.

وإن امتنع القوم من أن يقولوا : إنّه اضطرّهم إلى الكفر ، قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون قد خلق فيهم الكفر كما لم يضطرّهم إليه ويحملهم عليه.

ويقال لهم : أليس الله تعالى خلق الكفر والإيمان ، وأمر بالإيمان ونهى عن الكفر ، وأثاب على الإيمان وعاقب على الكفر؟ فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم فقد أمر الله تعالى العباد أن يفعلوا خلقه ونهاهم وغضب من خلقه ؛ لأنّ الله تعالى غضب من الكفر وسخط وهو خلقه. فإن قالوا بذلك قيل لهم : فلم لا يجوز أن يغضب من كلّ خلقه كما غضب من بعض خلقه ، ولم لا يجوز أن يأمر وينهى العباد ويثيبهم ويعاقبهم على السواد والبياض والطول والقصر ، كما أمرهم بخلقه ونهاهم عن خلقه وأثابهم وعاقبهم على خلقه"


بعد أن استعرضنا ما قاله الشريف المرتضى في فصوله السابقة فإننا نجد أنه من الصعب أن نحاول ببساطة تفهم الردود البسيطة التي يقولها الناس في مجتمعات هي وريثة عقلية متشعبة التوجهات كذلك ليس من اختصاصنا في هذا المقال الحكم على صحة هذه الأقوال من عدمها.

وإن كانت العقلية الدينية التي طرح كافة توجهاتها الشريف المرتضى خالية من السببية العلمية فذلك أنها مختصة بما يمكن أن نسميه (سلوك الإله) في تصورات المؤمنين به.

وفي محاولة لتفهم آثار إغلاق دور العبادة مثلا عندما انتشرت هذه الجائحة فإننا وجدنا أن غالبية الناس ينتمي فهميا إلى مجموعة الأفكار القائلة بالسببية الإلهية. وأن الحل هو الإبتهال والدعاء وأن العلاج ليس سوى أمر شكلي لا قيمة له أمام الدعاء والذي حاولت الحكومات عند كثير منهم حسب تعبيره منعه من خلال غلق دور العبادة متهمين الحكومات بالكفر صراحة.

ونخلص إلى أن محاولة فهم العلاقة بين الدعاء والعلاج ليس مردها عبارات بسيطة كقول بعضهم (اسعى يا عبدي وأنا أسعى معك- على الله التوفيق- خذ بالأسباب) فالأمر أبعد من كونه تباين واضح بين الفعل ورد الفعل.وهذا الإشتباه الناتج عن عدم التفهم للعلاقة بين العبارات اللسانية والمعتقد هو أمر لا يصل بنا في النهاية إلا إلى قول أن هذه المجتمعات مازالت ترضخ للمجهول. للمجهول كينونة وفعلا وإن أبدوا ظاهيرا معرفتهم به. ويدعم ذلك انتشار التصوف بطرق مختلفة مازال يحافظ على سمته الجهلي وعلاقاته المريبة بالماورائيات وإن حاول جاهدا محاولة التأصيل لنفسه على أسس سلفية نصا وعقلا. فهناك مفارقة واضحة بين العقل المفكر والعقل الناطق.




محمد شحاته حسين

مصر 2020




 
 
 

Commentaires


bottom of page