الأنظمة العالمية (أفلاك محطمة)
- محمد شحاته حسين "محمد العريان"
- Mar 5, 2021
- 4 min read
لا يمكن للعقل استحسان واستقباح الأشياء دون تجربة أو أوامر مسبقة . والقول بوجود وحدة وجودية شاملة تمكن البشر من ذلك هو نتاج قراءات تاريخية للثقافات المتناثرة والتي يصعب على العقل أن يتصور أنها كانت على تواصل ما يوما. وإني من المعتقدين جازما أن الثقافات العولمية لم تغب يوما عن العالم بصورة أو بأخرى وما نراه من تبعثر ثقافي في جميع أنحاء العالم هو نتاج انهيار حضارات ذات طابع عولمي مخلفة وراءها بنيتها المتشظية.
والتفاوت البشري أو التفوق البشري هو في الحقيقىة استحقاق نتاج عوامل قد تكون متخالفة وليست فقط مختلفة، كما لم يمكن تجاهل الظروف الطبيعية سواء المادية والثقافية التي نشأ بها الفرد، وإن التفوق الجنسي لا يمكن بحال رده، فهو نتاج ثقافة ، والثقافة لا تتولد فجأة ولا يمكن لها أن تتسع وتتطور بسهولة، ولقد حرص من يمتلكون العلم والمعرفة والقوة على التفوق من حجب المعرفة لأسباب عدة مختلفة ، ليست محل موضوعنا. إن الثقافة بطبيعتها التراكمية تحتاج إلى أسس مجتمعية ، وإن كانت العناية بثقافة الفرد هي جزء من العناية بثقافة المجتمع، لكن ذلك ليس بالضرورة يعني أننا سنحصل على ثقافة كلية مترابطة منتجة. إن الحضارات هي الإنتاج الذي قام على أسس ثقافية مختلفة. ولعل احتكار حزمة من المثقفين لمجموعة من الأدوات هو الذي يخولهم دائما التفرد بتوجيه الشكل الإنتاجي لهذه الثقافة. وليس من الضرورة أن يكون الإنتاج الحضاري موسوما بوسم الجدية والمنفعة المحسوبة، فقد تبنى الكثير من الأبنية وتكتب آلاف الكتب، ولا لشيء إلا أن ذلك يعجبهم ، فاقدين المعرفة الحقيقية للعلاقة بين المادة والوظيفة. كذا لا يوجد مؤشر حضاري يخول لنا الحكم على الحضارات بمقياس الجدية، فهذا يلزم أن نعرف كيف كانت تلك الحضارات تعيش وبشكل دقيق.
ربما الأهرام كمثال لأبنية حضارية نتاج ثقافة سادت في وقتها، وربما سادت في عقلية الطبقة المسيطرة أو حتى على عقل واحد منهم، من ثم تكرار هذا البناء ليس معولا عليه معرفة الأجيال الاحقة بسبب بناء الأهرام بهذا الشكل وفي تلك الأماكن بالتحديد. تماما كمن يصنع الأهرام اليوم فهو يصنعها ولا يعرف لها أي وظيفة حقيقية، فهي بمثابة فلكلور، وإن كانت الأبحاث تحاول جاهدة سبر غموض خصائص هذا البناء من ثم شكله، قد جعل لهؤلاء أن يسقطوا تلك الوظائف على مصنوعاتهم الجمالية الصغيرة ، والتي صنعت في الأساس لتباع للناس كتحف وتذكارات.
إنني من المعتقدين جازما أن الأنظمة العالمية لم تغب يوما عن العالم. ومهما بدا العالم في تشظي واندفاع نحو التفرق تارة ونحو الإندماج تارة فإن ذلك مرده مركزية ما، وهذه المركزية سواء حاضرة المعالم أو غائبة فإنني من المعتقدين جازما أن هناك دائما من هو على وعي كافي بوجودها وخصائصه.
لا مزيد من السرد حول كم الأنظمة التي رأى الباحثون أن لها واقع عولمي. وهي كثيرة ،كذلك كم النصوص الدينية والتاريخية التي تعرض علينا عوالم مسيطرة في أزمة مختلفة، هي في صميم التعريف النظامي العولمي، وقد تنشأ تلك الأنظمة وتتطرح ثقافة ما للوجود من ثم تحصل على نتاجها الحضاري وتذهب دون أن تترك أثرا حوكميا إنما تطرح نفسها كأيقونة تسود بلا جهد يبذله المؤسسون. وهذه الطبيعة الإنتشارية للثقافات مردها التكوين البشري الأصلي نفسه، ففهي النهاية هذه الثقافات لا تعرض رسالتها على الحجارة والصخور، إنما تتفاعل إشارتاها مع العقول البشرية.
لعلني أطرح كفكرة شخصية التفريق بين ما هو عالمي وبين ما هو عولمي. وأستطيع القول بعيدا عن التعريفات الكثيرة التي تجدهد نفسها لإستنقاذ معاني لكلمات استخدمت بقصد ودون قصد وعند كبار الكتاب وغيرهم.
الأنظمة العالمية ليس هي الأنظمة العولمية. وأقول أن كل ما هو عالمي عولمي وليس كل ما هو عولمي عالمي. فالنظام العالمي هو نظام موجود له أدواته ومفرداته في كل مكان ،ويدين لمركزية واضحة ،مهما كانت هذه المركزية. ونواة أي نظام عالمي لا تختلف تماما عن قشرته. وغالبا ما يكون للنظام العالمي سمات السيطرة والحكم. أما النظام العولمي فهو نظام انتاجي استهلاكي يتبع العرض والطلب وهو غير ملزم من حيث المركز، ولا توجد له مركزية واضحة. فهو نظام له سمات ثقافية حضارية بعيدة عن الدينونة لمركز يسيطر.
وفي الحقيقة فإن التفريق بين ما هو عالمي وبين ما هو عولمي يشبه الفرق بين الشعر والنثر فكلاهما يحمل قد يحمل نفس الرسالة ولكن بأساليب مختلفة. كذا أرى أن من أهم السمات الفارقة بين العالمي والعولمي هو السمة الواقعية، أو ما يمكن أن أسميه القدرة على الإنتشار فالنظام العالمي منتشر بالفعل أما النظام العولمي فهو لديه القدرة على الإنتشار ويمكن تقليده ومحاكاته دون إلزامية.
وتكمن الإشكالية في الدراسات الأنثربيولوجية أنهم يدرسون مجتمعات قائمة بالفعل، وإن أي دراسة لمجتمع حديث ليس في الواقع إلا دراسة لمجتمع ممنهج تمت السيطرة عليه مسبقا قبيل التجربة، وإني أرى أنه من المستحيل أن نحصل على مجتمع قائم للتو دون أن يكون له علاقة بماضينا البشري.
فإذا ما تخلينا الدولة مثلا هي العالم كله. فإن قوانين الدولة هي التي تمثل النظام العالمي.وأما لهجات سكان هذه الدولة وتوجهاتهم وأفكارهم وسعيهم الشخصي هو نتاج نظام عولمي. وقد يتشظى النظام العالمي إلى عدة أنوية كل نواة منهم تشبه تماما المركز القديم، ولكن غالبا ما تحمل الأنوية الجديدة سمات مغايرة للمركز القديم.
إن الثقافات المنتشرة في أماكن متفرقة في العالم بوصفها ثقافات بدائية تبعا لتصورنا ، هي نتاج المسافة البعيدة بينها وبين مراكزها الحضارية القديمة، ولا يمكن اتهام هذه المجتمعات بالتخلف، إلا من خلال نظرتنا لأنفسنا على أننا متقدمين، وربما بميكانيزم ثقافي معين تكتسبه إحدى تلك الحضارات لرأتنا نحن المتخلفين. وقد يبدو ذلك أحيانا على لسان بعض الإنتاجات الأدبية قديما والمقلدة حديثا سواء بالمعرفة أو الإعجاب دون إدراك بحقائق هذه الإنتاجات الأدبية. فالتاريخ العربي مثلا مليء بالزهاد كذا التاريخ المسيحي مليء بالرهبان. هذا النوع من الناس الذي يرى في الحياة وإنتاجها الحضاري شكلا من أشكال اللانفعية الهزلية البعيدة عن الجد الوجودي الذي من أجله كان الإنسان.
يستكمل..
محمد شحاته حسين (محمد العريان)
مصر 2021

Comments