top of page

إنسان الملح ( آدامورد والرجل ذو القبعة المثلثة)2

  • Writer: محمد شحاته حسين "محمد العريان"
    محمد شحاته حسين "محمد العريان"
  • Aug 12, 2021
  • 5 min read

Updated: Aug 13, 2021



مرت السنين وآدامورد يعيش وحده في هذه الجبال، و استطاع أن يتخذ كهفا صغيرا يشبه قبة غير مكتملة، كأنه بني ليكون بيتا على قمة جبل عال مسطح، يمتد أمامه الصخر مسافة رمية حجر، حتى يصل إلى جرف شديد الإنحدار يطل على واد عميق به نهر يمتد من الشرق إلى الغرب.

كان يعيش على أكل الآيائل و الكائنات بيده، كان يعدو خلفها، ويمسك بأقدامها ويرطمها في الصخر. فسيفه الحديدي قد بلي بعد كل تلك السنين، وصار يستخدم الصخور الحادة لذبح طرائده.

وكان في جوار كهفه يوجد قمة أعلى من قمته بقليل، بها عش لنسر عملاق. وقد راقب آدامورد طيران النسر كثيرا، وكان يعجبه حين يصل النسر إلى حافة الجرف، فبعد أن كان ارتفاعه عن الأرض- قمة الجبل- مسافة صغيرة، فجأة يصير تحته واد سحيق.

كان يعجبه مشهد اصطدام جناحي النسر العملاق بالريح، كان ريشه يختلف ويعتدل.كأنه يضرب الريح بأصابع من ريش.


استطاع آدامورد، أن يرى الكثير من الناس تمر بالوادي، كان يعتقد أنهم جنود الملك في رحلاتهم ضاربين في الأرض، فعادة ما يكون العابرون ثلاثة أو اربعة سوية.وكانوا دائما ما يصحبون الجياد. ولولا المسافة الكبيرة، لاستطاع تحديد إذا ما كان ما يرتدونه فوق رؤوسهم خوذ معدنية، أم لا. لكن كان يستقر دائما في عقله أنهم جنود عابرون.


ظل آدامورد مجاورا ثعبانا كان يعيش معه في الكهف، وكأن بينهما عهد ألا يؤذي أحدهما الآخر.كان الثعبان يخرج بعد فترات طويلة، من فتحة في أسفل الكهف، نحيلا هزيلا، ويعود بعد فترات وجيزة ممتلئا، بعد أن يكون التهم من صغار الطيور والضواري ما أمكنه.

وكان آدامورد لا يهمه رؤية الثعبان دائما، لكن كان يحاول أحيانا أن يتحدث إليه.


كانت لغة آدامورد تشبه لغتنا، وكان يقول الشعر أيضا، وكان يمكنه الكتابة، وكثيرا ما كان يخدش كاتبا بحجر على حجر ما يحب أن يكتبه.

ولم يكن في مدينته الأولى ما كان يوحي بأنها بدائية بأي حال، فلم يتعلم إشعال النار بطرق الحجارة وأعواد الخشب الجافة، إلا بعد أن طردهم الملك هو وقبيلته، وكان من حق المطرود أن يعلموه كيف يشعل النار بطرق بسيطة.

وكان يضع من كل ما يصيده قطعة من اللحم أمام جحر الثعبان، ويخرج لأعماله، فإذا ما عاد وجد القطعة قد اختفت، فيعلم أن صديقه الثعبان قد أخذها.


كان آدامورد قد تخير مكانا بين قمم الجبال، ليس بعيدا عن كهفه، و يطل على الوادي وله ممر شرقي وآخر غربي. كذا ممران مثلهما شمالي وجنوبي. وكان الوادي يمر بشكل عرضي إلى شمال البقعة التي اختارها آدامورد.


أخذ آدامورد يحمل الحجارة أياما كثيرة، بأحجام وأشكال مختلفة. وقرر أن يبني ما يشبه مدينة صغيرة له.

فقام بتصورها في خياله، وخططها على الجبل، وبدأ في بنائها تبعا لما يرتئي له.

وفي أثناء ذلك، كان يعمل بالفطرة ما يقوي دعائم جدرانها. فعرف المداميك، والأربطة، بل وعرف كيف يؤسس لجدار فوق أرض مهترئة، بصنع عوارض حجرية تحمله، ليبني فوقها.


فظهرت مدينته الصغيرة، لا تتعدى قرية صغيرة. وكان ارتفاع كل بيوتها دور واحد، ماعدا ما سماه البرج، وهذا بناه في النهاية، و وصل به سبعة أدوار كاملة، وكان يشبه الأبراج في مدينة الملك، لكن بفارق كبير في القوة والصنعة والحجم.

وكان يسقفها من فروع الشجر التي كان يكسرها بحجارته المسنونة ويضبطها كيفما اتفقت.


وبعد أن انتهى كان بمدينته ما يقارب أربعة شوارع صغيرة ضيقة، وشارع كبير واسع يقسم أبنيته التي بناها إلى جانبين، شمالي وجنوبي.


كل هذا السنين، لم يتغير شكل آدامورد، كان يقص لحيته بمعدات استولى عليها،بعد أن وجد مجموعة من جثث الجنود، وإلى جوارهم حقائب مليئة بمعدات كثيرة كانوا يحملونها على جيادهم، والتي يبدو أنها هربت، أو تلقفتها الضواري في مكان ما بين كل تلك الأودية.

كان ينظر في المرآة، ويتعجب. ما من شيء في ملامحه تغير. فيحسبه بسبب أن لم يمر عليه زمن طويل، ولما كان لا يحسب الأيام، فربما لم يمر أكثر من سنة على أكثر تقدير لديه.


كبرت مدينة آدامورد وتوسعت. وكان قد وجد بروزا صخريا شفافا يشبه جوهرة عملاقة ومن حولها تناثرت صخور منها. كانت صخور ملحية. لقد تذوقها وعرف أنها ملح صخري. فقرر أن يبني غرفة منها. ولما كان الملح الصخري تشكيله أسهل، قرر أن تكون أحجارها مشكلة سداسية الشكل كخلية النحل.


وكان هذا البيت يشبه حجرة وحيدة، فلم يصنع بها مثل بقية البيوت غرف وممرات، إنما فقط بيت من غرفة واحدة.

واستطاع صقلها فبدت كأنها غرفة من النور. كانت أشعة الغروب تضربها، فتحيلها إلى شعلة منورة، وكأنها شعلة لمدينته كلها.

كانت تتلألأ أمام عينيه كأحسن ما صنع. وسريعا دخل كهفه، وكان قد اصطاد أسدا رماديا هزيلا لتوه، بعد أن أمسك بقائمته الخلفيتين فجأة وحمله وضرب رأسه بالصخر بكل قوته فقتله. فوضع للثعبان قطعة من لحمه على مدخل جحره الصغير. وخرج ليقضي ليلته في بيته الملحي الجديد.


كانت ليلة تشبه ليلة هجوم الذئاب على قبيلته، وانهمر المطر نازلا. بينما كان في بيته الجديد يرى لمع البرق بشكل لم يره من قبل، كان فقط نور هنا وهناك في سقف وجدران الغرفة دون أن يحدد شكل البرق. كذا صوت الرعد كان يصل إليه مكتوما.

كان المطر قد أذاب الغرفة حتى تحولت وكأنها قطعة واحدة، وكأنها في مكانها بقدم الجبل. واتخذت شكلا أملسا لا حواف له ولا حدود جراء إذابة المطر لصخورها الملحية. فكان آخر عمال أنهوا له عمل غرفته الريح والرعد والبرق والمطر، قضى فيها آدامورد ليلته نائما يتقلب، وكأنه كان يرى أحلاما قوية. استيقظ على إثرها والليل مازال باقيا لم يأت الصباح بعد.

كان لأول ليلة يشعر بشيء غريب. فرؤية البرق من خلال سقف وجدران هذه الغرفة لم يره من قبل. فاعتدل عن فراشه وجلس، وهم أن يشعل النار. و بينما هو ينفخ في العود الدوار، رأى ما يشبه إنسانا على الجدار الذي أمامه حين لمع البرق.

كان وجه إنسان، نصف إنسان حتى صدره. كان يرتدي ملابس لم يرها آدامورد من قبل.

قبعة مثلثة، وعباءة سوداء ومن تحتها قميص أحمر بلون النبيذ الوردي، كانت الصورة وكأنها مرسومة على البلور بألوان مائية شفافة. وبعد عدة ظهورات انتاب آدامورد خلالها الرعب. كان آدامورد قد أمسك بحجر ووضع غطاءه على صدره، وكأنه يحاول أن يخفي جسمه. وظل يترقب بعينيه في الظلام الحالك لحظة سطوع الصورة على الجدار.

و فجأة أضاءت الغرفة بنور يبدو وكأنه تباشير الصباح، لقد كان الفجر الأول. وتوقف المطر، إلا أن الريح مازال صفيرها في الوادي ووشيشها عاليان. فقرر آدامورد أن يخرج. وأزاح بيده سريعا الحجر الذي سد به باب الغرفة.و فتح الباب.

كان صفير الريح عاليا، هائجة إلى درجة شعر آدامورد بقوتها الشديدة عندما أخرج رأسه من الغرفة لينظر.

لكنه قرر أن يخرج. وما إن توسط الشارع الحجري حتى لمع البرق مرة أخرى. فرأى في آخر الشارع رجلا، له هيئة الصورة التي كانت تظهر على جدار الغرفة، يسير بهدوء عكس اتجاه الريح، مبتعدا، بينما عباءته لا تتطاير وكأنه لا يمشي في الريح ولا يتعرض لها.

كان الشارع الحجري من بنيان آدامورد. يصل في نهايته الغربية إلى ثنية حجرية، تتصل بممر صغير به حجارة محطمة يتجه شمالا إلى حيث هوة الوادي.

وقف آدامورد في وسط الشارع الحجري فوق قمة الجبل المسطحة الكبيرة، وأمامه بيوته التي بناها متراصة على الجانبين لها أبواب مظلمة كأنها فتحات ليلية، لا يظهر منها إلا ما يكشفه لمع البرق، ولا يكاد يتبينها في نور الفجر الأول. الذي سرعان ما أظلم.


وكأنه يريد أن يعرف من هذا الرجل الطويل ذو العباءة والقبعة المثلثة الذي راح ينحدر يمينا عند آخر الشارع تجاه الوادي.


جرى آدامورد خلفه، فتعثر في بروز حجري، رغم استواء أرضية الشارع الحجرية، وسقط على الأرض سقطة قوية، تألم بسببها وتأوه، لكنه أصر على الجري وهو يضرب بقدميه برك الماء الصغيرة المتكونة في سطح الجبل. حتى وصل إلى آخر الشارع، ثم وقف ينظر يمينا ويسارا ولم ير الرجل، فزحف بظهره لينزل المنحدر الحجري المهشم تجاه هوة الوادي.

الذي كان يبدو مخيفا واسعا بينما الأمطار تحجب الرؤية بشكل كبير. بقى هناك نائما تحت المطر، وقد شعر براحة كبيرة بعد أن همد جسمه بعد السقطة القوية. و غفت عيناه. شعر كأن الحجارة المهشمة تحته فراش راحة لجسمه المنهك. فكان كحطام بشري ملقى على حطام حجري. يتداوى بنتوءاته وبروزاته، وتعريجاته التي تعيد ترتيب جسمه على غير ما ينام المرء على فراش مستو.

حتى أنه شعر براحة جعلته يمدد ذراعيه وقدميه في حطام الحجارة، كأنه يتدافن بها وببللها الرطب.


محد شحاته حسين (محمد العريان)
















 
 
 

Comentarios


bottom of page