آدامورد إنسان الملح ( وطأة الملح) 3
- محمد شحاته حسين "محمد العريان"
- Sep 18, 2021
- 8 min read
إنك لن تعرف الحياة ما لم تعرف هذا النوع من البشر، أريدك أن تصطدم بهذا النوع من البشر.
كان الرجل ذو القبعة المثلثة يأتي في أحلام آدامورد كلما قرر النوم في غرفة الملح. وشعر بأنه من الممكن أن تكون هذه الغرفة هي ما تسبب الأحلام السيئة.
جلس آدامورد ساكنا أمام الغرفة المحطمة، بعد أن أعمل فيها جهده هذا الصباح وهو يحاول فك حجارتها، التي التصقت جراء ذوبان الملح الذي صار كالملاط شديد التلاصق. ينظر إليها، وقد هدم بالذات الجدار الشمالي الذي ظهرت عليه صورة الرجل أول مرة ليلة المطر.
كانت أحلام عجيبة، وكانت كلها في أماكن لا يوجد مثلها في زمان آدامورد. فالرجل ذو القبعة المثلثة كان يظهر له تارة فيما يشبه ساحة قصر لا مثيل لبنيانه، وتارة في قاعة لم ير مثيل أثاثها وتصميم منقوشاتها من قبل. وعادة ما يصحو منها آدامورد وهو يشعر كأن عروقه ضيقة، وكأن شيئا ما كان يسري بجسمه يسبب له التنميل والثقل. كذا حاول مرة أن يقتله. لم يشعر آدامورد من البقاء وحده كل تلك السنين بالخوف ولا الوحدة. فالقرار ليس هو من اتخذه ليرجع عنه، فهو طريد بقرار ملكي، ولو فكر بالعودة لكان مصيره القتل.
ومنذ ظهور هذا الشبح في حياته، صار يحاول استرجاع ما كان يحفظه من تعويذات أو كان قد قرأها من قبل. بل و صار يحاول صنع أسلحة من نوع خاص، أسلحة رمزية نتاج فكره الخالص لا علاقة لها بأي معرفة كانت لديه. فنزل أسفل الجبل ووضع قطعة من الخشب بنية (أن ها هنا شخص يسكن ويعمل فلا يمكن لأحد أن يدخل عليه إلا أن يستأذن منه).
وكان كلما نظر إلى غرفة الملح شعر بكراهية تجاهها. صار يمقتها وقرر أن يزيلها تماما ويلقي بحجارتها أسفل الوادي. وقد فعل. من ثم اتجه إلى كهفه القديم ليضع للثعبان من صيده الذي صاده، كان قطعة لحم من آيل بري . وفوجيء بأن الثعبان لم يأخذ قطعة اللحم التي وضعها له منذ أربعة أيام. فوضع مكانها القطعة الجديدة و قام بحشرها داخل الجحر بعصا خشبية. و جلس متكئا إلى جوار الكهف يفكر ما الذي يمكن فعله إزاء هذه الحياة التي يحياها.وبعد ما يقارب الساعة قرر بناء مزيد من البيوت. وراح يجمع الحجارة من جديد. وقام بتخطيط شارع إلى جنوب البيوت التي بناها.
وفي المغيب جلس ينظر إلى الأفق الشرقي من حيث يأتي الليل، وما هو إلا وقت قصير، حتى ظهرت النجوم تتلألأ فوقه. فارتمى في منتصف شارع من شوارعه على الصخر. حتى راح في نوم عميق. استيقظ خلالها ونظر تجاه الشرق ليرى موقع نجمة الصباح، فعلم أن الفجر مازال بعيدا، فهي لم تعبر النهر بعد. وكان قد حدد مسارها عبر الليالي الكثيرة، بالنهر الذي يبدو شريطا صغيرا جدا تحيط به الغابات الكثيفة، أسفل الوادي، ويمتد آتيا من الشرق إلى الغرب. فالنجمة لابد أن تمر في الأفق الشرقي من الشمال إلى الجنوب. كانت علامة سهلة. وفجأة وهو يتقلب إلى يساره ليكون وجهه في اتجاه الغرب وجد شخصا يقف بطوله أمامه. لم يرفع آدامورد رأسه ليرى وجه الشخص، فقد عرف أنه الرجل ذو القبعة المثلثة. وسكن في مكانه وأغمض عينيه وهو يشعر بخوف شديد. سرت برودة عجيبة في عنق آدامورد، لقد وضع الرجل يده على عنقه. وحاول آدامورد أن يتحرك ليبعدها لكنه لم يستطع، ونزل الرجل إليه ونظر في عيني آدامورد وقال: " ليست المشكلة في الغرفة التي بنيتها بصخور الملح. اسمعني جيدا. يجب أن تغادر هذا المكان القذر الذي تظنه مملكة خاصة بك، أنت تعيش عيشة الكلاب، وهذا لا يليق برجل نتخذه قدوة لنا جميعا، لا تخف، أنا لن أؤذيك، فأنا دليلك إلى هناك، حيث يجب أن تكون، الآن سأسمح لك بالكلام، وسامحني أن قمت بتعطيل حلقومك بعض الوقت، فما كنت ستسمعني، اسمي جوليان، الكونت جوليان، وعمري 30 سنة، أصغر منك بكل تأكيد، لكن لدي ما أخبرك به ولا تعرفه" سحب الرجل يده من على عنق آدامورد، فتراجع آدامورد بجسمه والتف ونهض بسرعة. وقال " أنا لا أعرف ما الذي يحدث، ولست سعيدا بوجودك" أخرج الرجل من جيبه ما يشبه عدسة في جهاز صغير بحجم اليد، يشبه الكشاف. وقال : " سأريك ما لم تكن تظن أنه موجود" وجه الرجل الآلة تجاه جدار قريب منهما، وظهر فجأة عليه شاشة مضيئة ، تشبه شاشات السينما تماما، لكن الصورة لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، كانت ملونة ولكن مشوشة. وقال : " انظر معي، أليس هذا هو الملك؟" دهش آدامورد مما رآه، و قال: "نعم، إنه يشبه الملك تماما" - "إنه هو الملك، هذه صورة له، وهو يأخذ قرار طردكم، الذي لا تعرفون سببه" واستطرد وقال: " إن ابن العم الملك حاول اغتياله، ولما علم الملك، قرر أن يجازيه، ولأن مؤامرة ابن عمه لم تكن واضحة بشكل كبير، ولا يمكن شرحها للناس، قال أن قبيلتكم كانت تساعده، وبذلك صار للقصة معنى كبير، يجعل الملك قادرا عل. قتل ابن عمه، وقد فعل، وما أنت وقبيلتك إلا وسيلة لتحقيق تلك الخطة البسيطة، فتم طردكم لتتم القصة بنجاح" أغلق الرجل الكشاف، وأعاده إلى جيبه، ونظر إلى آدامورد وقال: " كنا نراقبك ليلة هجوم الذئاب على قبيلتك، ونعلم ما حدث، ولكن تساءلنا كثيرا، لماذا لم تحاول إنقاذ أحد؟!" نظر آدامورد إلى كفيه، وهو يحرك رأسه وقال:" ولماذا أنقذ أحدا، وأعرض نفسي للقتل؟!" ضاقت عينا الرجل وهمهم بكلمة غير مسموعة، وقال: " عد إلى نومك الآن، وسنلتقي قريبا" - ألا يمكنك أن تأتي نهارا؟ كان الرجل قد ترك آدامورد ومشى في نفس الإتجاه السابق ، تجاه الغرب ناحيو الثنية المطلة على الوادي السحيق وقال دون ان يلتفت إلى آدامورد " لا". وقف آدامورد يراقب الرجل حتى انحرف يمينا تجاه الثنية. وجلس على الأرض، ثم استلقى، ونظر في اتجاه الشرق ليجد النجمة قد عبرت النهر، مما يعني أن الفجر قد قرب. فقام، ودخل البيت المقابل لينام فيه، فهو لا يحب أن يكمل نومه في الشارع، بعد هذه الليلة المتعبة لتوقظه الشمس عما قريب.
مرت الأيام، ولم يأت الكونت جوليان لرؤية آدامورد منذ ليلة عرض الكشاف. مما دفع آدامورد إلى الشعور بأنه كان يجب عليه أن يسأله أكثر. لا أن يقف أمامه كالأبله وكأنه يواجه الشيطان.
قضى آدامورد جل النهار أسفل الوادي، وكان يفعل ذلك كثيرا. ينزل من الجبل، ويتجه ناحية النهر، ليصطاد ويسبح، وليأكل ما يشتهي من ثمار الغابة، والتي منها ما لم يكن في المدينة. فإذا قارب المغيب، انطلق صاعدا الجبل وهو يحمل صيده و بعض الثمار. أما المياه، فكان يجري إلى جوار مدينته جدول صاف صغير يتحدر في الجبل الذي كان أسفل جبله بقليل. ويسيل شلالا صغيرا إلى أسفل الجبل حيث الوادي.
و لم تظهر نجوم الليل في المغيب حتى سمع صوتا يقول " تبدو هذه ليلة جميلة يا سيدي" كان آدامورد قد عاد من غسيل فراشه في مياه الجدول، ولم يلتفت إلى الوراء حيث الصوت، و أكمل المشي صاعدا وقد ملأه الخوف إلى جبله. فقال جوليان وهو يمشي وراءه يتوق الحجارة يمينا ويسارا في خفة " حين تضع فراشك، وتجلس، فلدي الكثير لأقوله لك" ثم قال بصوت منخفض" يجب أن ترحل عن هنا يا سيدي، هذا المكان جميل، ولكن لا يصلح للبقاء فيه"
ألقى آدامورد بفراشه من على كتفه، وكان عنده أعواد صغيرة من الحطب، وحاول إشعال النار كما كان يفعل دائما، فتقدم جوليان، وأخرج من جيبه قداحة، وأشعل النار في ثوان أمام دهشة آدامورد، ووضع القداحة في جيبه. فنظر إليه نظرة عادية، وقام ليأتي بمزيد من الحطب. ونظر وهو آت من بعيد بعض الشيء إلى جوليان وهو يجلس إلى جوار النار، مفترشا الأرض مستندا إلى كفيه وراء ظهره. كان يبدو كقبطان فوق ظهر سفينة تسافر في الأفق. فتقدم نحو النار و ألقى بالحطب إلى جوارها، وأخذ يرص قطع الحطب في النار. فقال جوليان بسعادة: " هذا العالم لا يحتاج إلى هذا النوع من العناء يا سيدي، هناك عناء من نوع آخر يستحقه، لديك أتباعك الذين يجب أن تهتم بهم، حكمك الذي يجب أن تتولى شئونه بنفسك، أما أن تعيش هذه الحياة!" واعتدل جوليان ونظر في عيني آدامورد والذي كان جالسا متربعا ينظر في النار، وقال في جدية " لماذا لم تدافع عن أي شخص من قبيلتك؟، هذا السؤال يحيرنا جميعا، إن كل ما نعرفه عنك هو شجاعتك وقوتك، ولكن لما رأينا أنك لم تفعل أي شيء تلك الليلة سوى الهروب، فقد أصابتنا الحيرة جميعا. ربما تود أن تعرفني، تستطيع تسميتي بالصانع، أو الجامع، هم يحبون لي هذه الصفات، أني أولف بين الأشياء، قل الأقدار، وأكافيء بينها، حتى أصنع القدر الذي نريده، أما اسمي الذي أحبه هو الكونت جوليان". بقي آدامورد يعبث في النار، وهو يحاول أن ينظر تجاه جوليان بين حين وآخر. فقال جوليان في لهجة صارمة " في هذا العالم، وعبر تاريخه، وجدت العديد من الممالك والبلدان، وأكثر بكثير من الملوك و الحكام، وكان من بين كل هذه الممالك دائما هناك مملكة واحدة تحكم الجميع" ثم وقف جوليان و مشى خطوتين إلى الأمام ثم استدار ينظر إلى جوليان، واستطرد قائلا" رجل واحد يحكم الجميع، وكنا نحن دائما إما نصنع هذا الرجل، أو ننهيه ، لصالح مملكة جديدة، إننا نفعل ذلك كي تبقى الحياة" مرت لحظات صمت قطعها صوت آدامورد " أي حياة؟" قالها، وهو ينظر بعينين تنكران كل ما قاله الكونت جوليان. والذي بدوره، ضرب بقدمه اليمنى فجأة الحطب المشتعل بعيدا وقال في هدوء " إن لم تكن هو ،فلا داع لأن أبقى" ثم استدار مبتعدا وقال" سيدي آدامورد، فكر، فكر بما قلته لك، كما يجب أن تعرف إجابة، لماذا تركت قبيلتك تلك الليلة؟"
جلس آدامورد مذعورا في مكانه، فهو لم يتمالك نفسه منذ ضرب الكونت الحطب المشتعل بقدمه. ثم قام مسرعا وجمع القطع الكبيرة المشتعلة من الحطب وأعادها إلى الموقد، وأحضر دلوا خشبيا مليئا بالمياه، وصبه على الحطب المتناثر فأطفأه. ثم عاد واستلقى بعيدا عن النار. ثم قام متململا، وأحضر الدلو مرة أخرى، وصب بقية ما في الدلو على الحطب المشتعل في الموقد.
استلقى آدامورد في الظلام، وهو ينظر تجاه المنحدرات البعيدة، فاستواء القمة الجبلية التي هو عليها تسمح له أن يرى بوضوح كل ما حوله في تلك الليلة القمرية. الغابات البعيدة والجبال، وكذلك النهر في تلك الساعة يعكس أشعة القمر. كان مشهدا كلوحة رسمت بأشعة القمر. مرت الساعات، ولما لاح أول نور للفجر الحقيقي تنهد آدامورد هواء الفجر الصافي، وأخذ يتنفس بقوة وكأنه ينظف صدره من هواجس الليلة الماضية، وقال وهو يحدث نفسه" لو كان رأى ما رأيته تلك الليلة لعرف لماذا هربت ولم أنقذ أحدا".
مرت الأيام ولم يأت جوليان، ولم يعد آدامورد يهتم، فما عسى لديه إلا التفوه بأمور غير مفهومة، إلى جانب آلات عجيبة.
وكان آدامورد في تلك الفترة قد قرر أن ينتقل من هذا المعقل الذي صنعه بيديه، فالأرض رحبة، وإن كان أعلى الجبل أفضل من أسفله حيث تحوم الحيوانات المفترسة والزواحف. إلا أنه يحتاج إلى رؤية بشر، لا حبا لهم، إنما ليعيش كما يجب أن يعيش الناس. فأحلامه صارت لا تطاق، مليئة بأمور مفزعة. آلاف القتلى بمختلف الملابس واللغات والأماكن، وأسلحة عجيبة تقتل، ومدن كبيرة غريبة تنهار. وخشي على نفسه أن لو بقي على هذا الحال فإن مصيره سيكون مخيفا، فهو لا يتوقف طوال الوقت عن التفكير في تلك الأحلام التي تباغته. جرب النوم في مختلف الحجرات والبيوت، والأوقات، فهذه الأحلام تهاجمه في أي وقت ينام إن كان نهارا أو ليل. بدا شاحبا حقا، كذا هزيلا، رغم بنيته القوية، وقد عرف هو بنفسه ذلك. وكان كلما أمتص بعض قطع الملح الصخري شعر بأن حلما سيئا سيفاجئه. إلا أنه قرر في نفسه شيئا غريبا. أن يمتص الملح بلا توقف، ومهما جرى من أحلام مفزعة، فقد شعر أن الملح لا يصنع الأحلام السيئة، لكنه يهاجم داءا ما في جسمه، ما إن يقضي الملح على هذا الداء، فتلك الأحلام تزيد شراسة، وكأنه الداء يصارع من أجل البقاء.
ولم يلبث أن فكر، ربما هذا الملح يزيد من وضوح رؤية أمور ما ، نعم مخيفة، لكنها هناك موجودة، وأن هذا الملح يصقل مرآة النفس لترى ما لن تراه دون وضوح كاف.
تشققت شفتاه، كذا شعر بأن جلده صار جافا أكثر مما يجب، وهو يعلم أن ذلك جراء امتصاص كميات كبيرة من الملح. لكنه استمر ولم يتراجع. كانت الأحلام تزداد قوة ووضوحا. حتى أنه صار يشعر وكأنه فيها حقيقة، وأنه يجب عليه أن يقاوم ما يراه. لقد صارت لديه القدرة على اتخاذ القرارات داخل الأحلام، فإذا ما أراد المشي تحرك ومشى، وإذا أراد التوقف توقف، لكن الذي ظل يشغل باله طوال فترة يقظته. سؤال طرأ على عقله. هل من الممكن أن أتحكم في أماكن الأحلام، الدخول فيها والخروج منها، العودة لاستكمال حلم خرج منه؟
ظلت أكوام حجارة الملح أمامه، وقد تأكد أن لهذا الملح سر مع الأحلام. وأنه لولا هذا الملح ما حدث كل هذا.
فرأى أن يستكثر من الملح، فصنع خاتما من صخره، كذا دثر فراشه بطحينه، وراح يرش طحين الملح في كل البيوت التي شيدها. وكان إذا جلس وضع حجرا منه أسفل قدمه، وكان يحب أن يستشعر الحجر بقدمه، خشونته و جرشه نتيجة الإحتكاك المستمر طوال الوقت. كذا كثيرا ما كان يرش جسمه بالملح، حتى شعره بدا كأن قد شاب من كثرة الملح الذي ينثره فوقه. لقد فكر أنه قد تحول من إنسان عادي إلى إنسان له طابع غريب، فهذا الحال لا يمكن أن يكون به بين الناس إلا كونه مجنونا أو مصابا بمرض خطير أو معدي.
محمد شحاته حسين (محمد العريان)
كاتب مصري

Komen